إمبراطورية م .. معالجة ناضجة وفيها لمسة الواقع المعاصر

الموجز

أشاد الكاتب الكبير محمود عبد الشكور ، بمسلسل إمبراطورية م .

حيث كتب يقول :

"إمبراطورية م"، في نسختها التليفزيونية 2024، بكتابة محمد سليمان عبد المالك، وإخراج محمد سلامة، معالجة ناضجة وذكية للأصل، فيها لمسة الواقع المعاصر، دون إغفال للأفكار التي شغلت إحسان عبد القدوس في قصته، ودون إفلات مغزى الحكاية ومعناها، ودون التنازل عن بصمة خاصة، لا تنافس الفيلم الشهير لفاتن

حمامة، ولكنها تنسج على نفس النول، وتقدم تنويعات على نفس اللحن والمقام.

أعاد عبد المالك البطولة الى الرجل كما في قصة إحسان، وكانت المعالجة السينمائية قد جعلت البطولة للأم، لكي تكون القصة مناسبة لفاتن العظيمة، العائدة بعد غياب طويل عن السينما، والحقيقة أن وفاة الأم، ومأزق الرجل في إدارة الأسرة/ الإمبراطورية، أقرب الى مغزى الحكاية الرمزي، لأن هناك المستوى الإجتماعي

الواضح، سواء فيما يتعلق بالعلاقات بين الأب وأولاده، ومشاكل التربية، وصراع الأجيال، ومشكلات كل سن، من الطفولة والمراهقة الى الشباب .. إلخ، ولكن هناك المستوى الأعمق والأهم، وهو تحليل طبيعة "السلطة الأبوية" داخل الخلية الأصغر في المجتمع وهي الأسرة، هل هي سلطة مطلقة أم أنها يجب أن تحلّق بجناحي

"الحب" و"الحرية" معا، وهما أبرز فكرتين يدافع عنهما إحسان عموما في رواياته.

ينتصر إحسان لفكرة إعادة تأسيس العلاقة، حتى لو كانت أبوية وحميمة، على الحوار والنقاش والحرية، الحب وحده لا يكفي، وعقدة القصة كلها محورها هذا التمرد والاحتجاج على "السلطة الأبوية" بطابعها التقليدي الموروث، بل والدعوة الى انتخابات لاختيار مركز السلطة داخل الأسرة، ربما لأول وآخر مرة في التاريخ، وهي

فكرة رمزية مدهشة وخطيرة، لأنها ببساطة دعوة لتحويل الأسرة المصرية من "إمبراطورية" الى "جمهورية"، وهي فكرة يمكن أن ينتقل مغزاها بسهولة الى كل المستويات، ولا ننسى أن اسم "مصر" يبدأ أيضا بحرف "الميم"، وليس أسماء أفراد أسرة القصة والفيلم والمسلسل فحسب.

لم يحدث أن نوقشت السلطة الأبوية بمثل هذا الوضوح، أو بتلك الجرأة، وداخل الأسرة، حصنها المقدس، ولذلك بدت القصة شديدة البساطة والجاذبية، وشديدة العمق والتركيب في نفس الوقت.

من وجهة نظر إحسان، حتى في داخل الأسرة، لابد من إعادة تأسيس علاقات السلطة، فمابالنا  الحال على مستويات أوسع وأكبر وأهم؟

استوعب نجيب محفوظ الفكرة، فكتب معالجة عظيمة للفيلم، وجاء عبد المالك ليؤكد أنه أيضا على نفس الطريق، بل إن اختيار قصة "إمبراطورية ميم" بالذات دليل وعي بأهمية الفكرة المضاعفة في عصرنا الراهن، ومع جيل أكثر انفتاحا واختلافا، جيل أكثر مقاومة للامتثال، ما لم يفهم ويقتنع بما يقال له.

تغيرّت بعد ذلك أشياء كثيرة، وتغيّرت العلاقات والتفاصيل، بما يناسب زمننا الراهن، أخذت الجدة دورا قويا، وتألقت شخصية العمة، ولها دور هام جدا ومحوري في معالجة عبد المالك، وبأداء نشوى مصطفى البديع، المستوى الإقتصادي الذي جعل فاتن حمامة الموظفة الكبيرة، تعيش حياة مريحة، يتحول هنا الى حياة أكثر تعقيدا،

فالأب مختار أكثر ثراء، ولكنه في أزمة وكبوة، سيجعل ذلك سلطته على المحك، وسيزيد من الصراع اختبار بيع المكان، والحصول على أموال ضخمة، ستوضع الأسرة في مناخ أكثر تركيبا، ولكن سيحتفظ المسلسل بدفء العلاقة بين الأبناء ووالدهم، رغم الشد والجذب، وسيطرح كذلك أسئلة الأبناء الصعبة والصريحة، وستحتفظ 

المعالجة أيضا بفكرة "الحقوق والإدارة"، فالابن الأكبر درس العلوم السياسية، بينما الأب يرى نفسه إمبراطورا، ويحلم بأن يرى أبناءه من الوزراء.

سيكون مفتاح التميز في المسلسل في "الكاستنج" الممتاز كما كان الحال في الفيلم، وخصوصا خالد النبوي ونشوى مصطفى ونور النبوي ومحمود حافظ ويارا عزمي وأحمد السلكاوي وليلى عز العرب وإيمان السيد، وجميع الأولاد والبنات بحضورهم وحيويتهم وخفة ظلهم، وسيضبط المخرج محمد سلامة خطوط وإيقاع الحكاية

بكل براعة، نجاحه الأهم ألا نشعر في البيت بوجود كاميرا أو صنعة أو حركة لافتة، وكأننا بالفعل داخل بيت وأسرة، نتلصص على حياتهم ومناقشاتهم، وستكون مشاهد الفلاش باك بحضور الأم (سلاف فواخرجي) في مكانها.

الصراع مستمر من البداية الى النهاية، وكيمياء رائعة بين الأبناء الموهوبين، كل شخصية منهم واضحة ومميزة، وتؤدي دورا في الأحداث، والتمرد الصريح على السلطة الأبوية ليس خشنا ولا مباشرا، ولكنه أقرب الى لعبة ظريفة، وهذا أيضا جوهر حكاية إحسان، وسبب جاذبيتها، وأغنية التتر لمدحت صالح جزء لا يتجزء من

الدراما، وتعليق ظريف على معاناة الأب، وتمهيد يومي للعبة القط والفأر التي نراها.

بعد أعمال مثل "إمبراطورية م" و "راجعين يا هوى" و"مذكرات زوج"، أعتقد أن محمد سليمان عبد المالك يمكنه تقديم الكثير في مجال المعالجات الجديدة لأعمال سابقة، لا أتحدث فقط عن الحرفة التي تجعله قادرا على كتابة "أنواع" مختلفة من الدراما بإجادة لافتة، ولكني أتحدث أيضا عن الرؤية والإعداد المعاصر الذكي ل

حكايات نعرفها، والبراعة في التعبير عن جيله، وربما الأجيال الأحدث والأصغر سنا.

لن تموت الأعمال الدرامية الكلاسيكية العظيمة طالما كان هناك من يستطيع تقديمها  من جديد بنبض اليوم واللحظة.

 

تعليقات القراء